كيف تقضي على دولة دون حرب?
, عميل كي جي بي سابق: كيف تقضي على دولة دون حرب?
المصدر/ احمد المقدم
كان يوري بيزمينوف أحد أطفال الحروب، فقد ولد في موسكو سنة 1939 وكان أبوه ضابطًا في الجيش السوفييتي. ضمن له منصب أبيه تعليمًا جيدًا تمكن بعده من الالتحاق بمعهد اللغات الشرقية التي يقول عنها بيزمينوف أنها كانت في الحقيقة تابعة للكي جي بي (المخابرات السوفييتية) وكان هدفها الرئيسي تفريخ نخبة من الدبلوماسيين والجواسيس.
بعد تخرجه تم بعثه إلى الهند كمترجم تابع للمجموعة السوفييتية للدعم الاقتصادي، وسرعان ما أدرك أن الهدف الحقيقي لهذه المجموعة هو الاستغلال لموارد الهند وليس المساعدة الاقتصادية، وساعدهم على تحقيق هذا ما دعاه التخريب الأيديولوجي Ideological Subversion الذي كان يتبعه الاتحاد السوفييتي من تجييش الإعلام والسياسة والوسائل الأخرى لفرض الهيمنة على الهند.
عاد بيزمينوف إلى موسكو والتحق بوكالة نوفوستي الصحفية Novosti Press Agency التي أكد بيزمينوف أنها أهم وسائل الدعاية التابعة للكي جي بي ثم بعد عدة أشهر تم تجنيده رسميًا للعمل كمخبر للكي جي بي ومهمته الرئيسية كانت نشر معلومات مغلوطة للدول الأجنبية هدفها إعلاء شأن الاتحاد السوفييتي وتخريب هذه الدول.
عاد إلى الهند مرة أخرى ليرأس مجموعة البحث والدعاية المضادة Research and Counter-Propaganda Group التابعة للسفارة السوفييتية في نيودلهي والتي حملت على عاتقها العديد من المهام هدفها الرئيسي زيادة دائرة النفوذ السوفييتي في الهند، ومن هذه المهام كان جمع المعلومات عن الشخصيات الهامة في الهند والعمل على شراء ولائهم أو ابتزازهم.
يقول بيزمينوف أن الفترة التي عاشها في الهند ولدت داخله احترامًا وحبًّا تجاه هذا البلد العريق وأن هذا جعل اشمئزازه من ممارسات حكومته في حق هذا البلد تزداد بمرور الوقت، إلى أن قرر في عام 1970 أن يهرب من الهند متجهًا إلى كندا حيث قضى بعض الوقت ثم منها اتجه إلى الولايات المتحدة، هناك غير اسمه إلى توماس شومان وعمل ككاتب ومحلل سياسي واعتبر نفسه رسولًا إلى الشعب الأمريكي يحمل تحذيرات من سياسات التخريب الأيديولوجي التي يتبعها الاتحاد السوفييتي والتي ضربت بجذورها في الولايات المتحدة نفسها واستمر على هذا الحال حتى مات عام 1993، وكان أحد كتبه التي كتبها في سبيل رسالته هذه هو كتابه الصغير جدًا بعنوان: رسالة حب إلى أمريكا Love Letter to America، الذي كتبه عام 1984 وشرح فيه بالتفصيل خطوات التخريب الأيديولوجي الأربعة.
رسم توضيحي لخطوات التخريب الأيديولوجي الأربع مع الجدول الزمني (من كتاب يوري بيزمينوف: رسالة حب إلى أمريكا)
المرحلة الأولى: مرحلة تدمير الأخلاق ونزع الروح المعنوية Demoralization
يقول بيزمينوف أن نزع الروح المعنوية لدولة ما قد تأخذ بين 15 و20 عامًا، وهو يفسر الاحتياج إلى هذا العدد من السنين لأنها المدة المطلوبة لتعليم وتخريج جيل واحد من من الطلبة المحملين بأيديولوجيا المخرّب subverter في الدولة المستهدفة، ويؤكد أن هدف هذه الخطوة هو إزالة أي معوقات أمام الأيديولوجيا المستوردة من المخرّب عن طريق الإجهاز على أي أيديولوجيات قومية متينة.
لتحقيق النجاح في هذه الخطوة يخبرنا بيزمينوف أن المخرّب عليه أن يعمل على ثلاثة مستويات:
❖الأفكار
وتعد هذه أعلى مستويات التخريب وأكثرها فاعلية، فالأفكار هي التي تؤدي إلى التغيرات الضخمة في مسار التاريخ، ومن أهم أهداف هذا المستوى هو التركيز على الدعائم الفكرية التي ترتكز عليها الدولة المستهدفة كالدين والتعليم والإعلام والثقافة. بدايةً، على المخرّب أن يفكك الدعامة الدينية التي توفر الثوابت الأخلاقية ويمكن تحقيق هذا بطرق عدة أهمها (تسييس) الديانات السائدة، فربط الأساسيات الدينية بالاتجاهات والصراعات السياسية يعد أول مسمار في نعش هذه الأساسيات لأن هذا يدنسها ويفقد ثقة العامة بها، ويقول بيزمينوف أن تحقيق هذا الهدف يأتي عن طريق زرع كوادر دينية جديدة أو استمالة الكوادر القديمة كي يخوضوا بقوة في المجال السياسي. من الطرق الهامة الأخرى لتحييد الدين: (التسويق)، فعكوف المؤسسات الدينية على جمع التبرعات من المتدينين تؤدي إلى نتيجتين: أولاهما أن الدين يصبح مجالًا لبروز الأبرع في عملية التسويق الذي ليس من الضروري أن يكون لديه نفس الوازع الأخلاقي، ثانيهما أن المتدين الذي يتبرع يشعر أنه بهذا قد أدى ما عليه تجاه هذا الدين فلا يسعى إلى مزيد من المساهمة مما يبعده عنه روحيًا. طريقة ثالثة ذكرها بيزمينوف هي (جعل الدين مصدرًا للتسلية) بأن يصبح رجل الدين كالمؤدي على المسرح وأن يصبح ظهوره أساسيًا في وسائل الإعلام وأيضًا بالاستعانة بالنجوم اللامعين كالممثلين والمطربين للدعاية لبعض الأفكار الدينية، وبهذا تخرج هذه الأفكار من دائرة التبجيل إلى دائرة الهزل.
الدعامة الثانية هي التعليم، وهدف المخرّب هنا هو نشر الجهل في الدولة المستهدفة مع إعلاء أفكار المخرّب وتمجيدها بحيث تخرج أجيال من الطلبة الناقمين على دولهم العاشقين للأفكار التخريبية، وهذا يتحقق بطرق غير مباشرة مثل برامج تبادل الطلبة التي تعطي الفرصة لإجراء عمليات غسيل لمخ هؤلاء الطلبة، إغراق الجامعات والمدارس بالأعمال الأدبية المختلفة القادمة من دولة المخرّب، دعم الكوادر الطلابية المتطرفة الأفكار، ودعم الجرائد والصحف الطلابية الناشرة لأفكار المخرّب.
الدعامة الثالثة هي الإعلام، فاحتكار الإعلام وفرض وجهة نظر واحدة تعد من أهم طرق تأثير المخرّب على أفكار الدولة المستهدفة، هذا بالإضافة إلى التشهير بالكوادر الوطنية والتركيز على المشاكل التافهة وغض البصر عن المشاكل الرئيسية.
الدعامة الأخيرة هي الثقافة، ويحاول المخرّب هنا استمالة الكتاب والشعراء والفنانين المغمورين في الدولة المستهدفة ويدعمهم ويدعم أفكارهم المناهضة لدولتهم حتى يكبروا وتنتشر أفكارهم هذه بين الناس وخاصةً الأجيال الناشئة، ويطلق بيزمينوف على هؤلاء لقب: (المغفلون المفيدون useful idiots).
❖الهياكل
المستوى الثاني بعد الأفكار الذي يعمل عليه المخرّب هو مستوى الهياكل الرئيسية في الدولة المستهدفة كالهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأهم هذه الهياكل هي مؤسسات القضاء والشرطة والجيش، فعلى المخرّب أن يركز على كل ما يثير استياء العامة تجاه هذه المؤسسات ويدفعهم إلى الهجوم عليها مما يقلل من فاعلية هذه المؤسسات في أداء مهامها وهذا بالتالي يزيد من الاحتقان.
❖الحياة
المستوى الثالث والأخير في خطة المخرّب لنزع الروح المعنوية هو مستوى الحياة، ويبدأ هذا المستوى بتخريب الحياة الأسرية، فجعل الأسرة المفككة هي النموذج العام يقلل من ولاء الابن أو الابنة لهذه الأسرة مما يمهد لتقليل ولائهم تجاه دولتهم كخطوة تالية، جانب آخر لهذا المستوى هو جانب الحياة الرياضية فتشجيع الرياضة أن تصبح احترافية بالمقام الأول يدفع الجموع إلى الاكتفاء بمتابعتها على الشاشات أثناء تناول الأطعمة غير الصحية، وهذا يقودنا بالتالي إلى أهمية تشجيع إنتاج الأطعمة السريعة الاستهلاكية التي تفسد صحة المواطنين وتصيبهم بالبلادة الجسدية والعقلية، بضعة من الجوانب الأخرى لهذا المستوى التي يشير إليها بيزمينوف هي العمل على إثارة حنق الأقليات في الدولة المستهدفة، الحث على زيادة التمدن بما أن الفلاح الذي يمتلك أرضه يكون في الغالب أكثر الناس وفاء لهذه الأرض ومن ثم لدولته، وأخيرًا العبث في النقابات العمالية والتشجيع على التظاهرات التي لا تطالب بالضرورة بطلبات مشروعة بل تكون أشبه بمحاولات الابتزاز خاصة إذا تمت في أوقات تكون الدولة فيها في أمس الحاجة إلى خدمات هؤلاء العمال.
المرحلة الثانية من الخطة التخريبية هي: زعزعة الاستقرار Destabilization
بعد نجاح خطوة نزع الروح المعنوية، لا يحتاج المخرّب الآن إلا إلى مساعدة مواطني الدولة المستهدفة أنفسهم على جلب عدم الاستقرار لها وهذه الخطوة قد تأخذ بين عامين وخمسة أعوام.
أولى علامات زعزعة الاستقرار هي صراعات القوة التي يلجأ فيها العامة منزوعو الروح المعنوية إلى الخيارات الأسهل مثل اختيار السياسيين ذوي الشخصيات الكاريزمية والذين يعدون بالاستقرار وبالحلول السريعة السهلة لمشاكل الدولة، هذه الحلول التي دائمًا ما تفشل وتؤدي إلى مشاكل أكبر وأكثر.
كنتيجة طبيعية لزعزعة الاستقرار تلجأ الدولة إلى السيطرة على الموارد الاقتصادية بحجة حماية مصالح الدولة مما يؤدي إلى المزيد من القوة التي تحتكرها الدولة ومزيد من احتقان المواطنين تجاهها.
أما من ناحية السياسة الخارجية، فالصراعات الداخلية سوف تؤدي إلى عزلة الدولة المستهدفة عن باقي دولها الصديقة وهنا تأتي دولة المخرّب لتقدم يد العون الوحيدة إلى الضحية وبهذا تضعها فعليًا تحت سيطرتها.
المرحلة الثالثة: الأزمة Crisis
النتيجة الطبيعية لزعزعة الاستقرار هي الأزمة والتي لن تأخذ أكثر من شهرين إلى ستة أشهر حتى تحدث، وفي هذه الخطوة يتم تنشيط جميع الخلايا النائمة للمخرّب في الدولة المستهدفة لاستغلال ارتباك الجماهير وخوفهم والسيطرة على الأمور سريعًا، وفي الغالب سوف يأتي هؤلاء إلى مراكز القوى عن طريق الانتخاب وسيتبع ذلك إعلان حالة الطوارئ بحجة السيطرة على الأمور والتي لن تجد أي مقاومة من الجموع المرتعدة، بل في الغالب سوف تكون مرحَّبة من قبل تلك الجموع.
عند بلوغ هذه المرحلة لن يحتاج المخرّب إلى أي تدخل عسكري في الدولة المستهدفة، فقد خضعت له هذه الدولة بالفعل بأن أصبح رجاله هم المالكين لقوت يوم مواطنيها، ويستطيع كذلك إجراء التغييرات الجذرية مثل تأميم الممتلكات وإعادة توزيع الثروة كيفما يحلو له مسلحًا بالجهاز الإعلامي الذي يبرر له كل ما يفعله.
الخطوة الأخيرة: التطبيع«التطبيع» Normalization
الخطوة الأخيرة في خطة التخريب هي تطبيع المواطنين في الدولة المستهدفة على الأوضاع الجديدة وهذا قد يتم بالقوة إذا لزم الأمر، فرغم أن معظم المواطنين لن يقاوموا التغيير إلا أنه لابد من ظهور بعض خلايا المقاومة هنا وهناك والتي لن ترضى بهذه التغييرات التعسفية، لكن هذه المحاولات يمكن وأدها عن طريق قوة الشرطة والجيش وسوف يصبح من الطبيعي مشاهدة الجنود يجولون في جميع الأنحاء لإلقاء القبض على من يحلو لهم، أما بالنسبة للـ(مغفلين المفيدين) فسوف يكونون أول من يتم زجه بالسجون والمعتقلات وسوف يعدم الكثيرون منهم بعد أن فقدوا أهميتهم بالنسبة للمخرّب.
لن يُسمح بالطبع بأي نقد لنظام الدولة الجديد وسوف يخضع جهاز الإعلام إلى رقابة شديدة على ما يقدمه، وبهذا تتم عملية التخريب الأيديولوجي بنجاح منقطع النظير.
نستطيع الخروج هنا باستنتاج منطقي وهو أن تفاصيل خطة التخريب الأيديولوجي حتى وإن لم تكن معروفة لدى دول غير الاتحاد السوفييتي في وقت ما، فهي حتمًا صارت معروفة لدى هذه الدول عن طريق المنشقين مثل يوري بيزمينوف، وهذا يدفعنا إلى أن نسأل أنفسنا سؤالين مهمين، أولًا: أليس من المنطقي أن تستغل مثل هذه الدول – إذا توافرت لديها الآليات اللازمة – هذه الخطة في تحقيق مآربها؟ ثانيًا: ألا يوجد تشابه ملحوظ بين ما يحدث في عالمنا العربي الآن والخطوات التي شرحناها وكأن هناك مخرّبًا ما يقوم بتنفيذ الخطة حرفيًا في هذه المنطقة؟
Post a Comment